القائمة الرئيسية

الصفحات



مساهمـــــات المحاكــــم العليا في تعــزيز مبـــدأ استقــــلال القضـــــــاء نمـــــوذج المحكـــــمة الاتحاديــــة العــليا بدولــة الامارات العـــربية المتــحدة





الامارات العربية المتحدة
المحكمة الاتحـادية العليا
       أبـوظبي


         

مساهمـــــات المحاكــــم العليا في تعــزيز مبـــدأاستقــــلال القضـــــــاءنمـــــوذج المحكـــــمة الاتحاديــــة العــليابدولــة الامارات العـــربية المتــحدة



ج
ورقة بحث مقدمة إلى المؤتمر الثاني لرؤساء
المحاكم العليا في الدول العربية



إعداد
القاضي / د. عبد الوهاب عبدول
رئيس المحكمة الاتحادية العليا
الامارات العربية المتحدة
الدار البيضاء/المغرب
17-18/9/2011



فهــرس الـــورقـــة



·      مقدمـة
أولاً : أساس مبدأ استقلال القضاء
-       الأساس النظري لمبدأ استقلال القضاء.
·        القضاء سلطة من سلطات الدولة.
·        حيادية القضاء.
-       الأساس التشريعي لمبدأ استقلال القضاء.
·        الدستور الاتحادي.
·        القوانين الاتحادية.
·        القوانين المحلية.
ثانياً : المساهمة القضائية في تعزيز مبدأ استقلال القضاء
-       المساهمة على مستوى تأطير المبدأ
·        التأكيد على خضوع الدولة وكافة سلطاتها و أجهزتها لحكم القانون.
·        التأكيد على إعطاء وصف "السلطة القضائية" للهيئات القضائية المحلية.
-       المساهمة على مستوى تطبيق المبدأ
·        حماية القاضي من الخصوم (مخاصمة القضاة).
·        حماية القاضي من التأثر بعواطفه (رد القضاة).



مقدمــة  الـــورقـــة

 
يعني مبدأ "استقلال القضاء" في لغة القانون والقضاء، مجموعة القواعد الكلية والجوهرية التي تحمي وتصون القضاة والعمل القضائي من التدخل فيه أو التأثير عليه للانحراف به عن أهدافه وغاياته.
ويقوم التنظيم القضائي الحديث على عدة مبادئ ، كمبدأ المساواة أمام القضاء ، ومبدأ سيادية القضاء، ومبدأ حيادية القضاء، ومبدأ استقلال القضاء. واستقلال القضاء يعني، عدم تبعية القضاء لأية جهة أو الخضوع لأية وصاية أو ولاية أي شخص أو جهة، أياً كانت صورة هذا الخضوع أو الولاية، سوى وصاية أو ولاية القضاء ذاته. فالقضاء هو والي وسيد نفسه.
وثمة آليتان أساسيتان تعملان على دعم وتعزيز مبدأ استقلال القضاء، هما التشريع بمختلف أنواعه والمحاكم بمختلف درجاتها.
وفي الورقة الماثلة، إضاءات على دور المحكمة الاتحادية العليا الاماراتية في تعزيز مبدأ استقلال القضاء.

أسأل الله التوفيق وتحقيق القصد والمراد ، وهو المستعان.


رئيــس المحكــمة الاتحـادية العليا
                                                               بدولة  الامارات العربية المتحدة
                                                                القاضي/د.عبدالوهاب عبدول



أولاً : أساس مبدأ  استقلال القضاء
-       الأساس النظري " الفكري" لمبدأ استقلال القضاء
أ‌-     القضاء سلطة من سلطات الدولة.
قد يكون من الإطالة غير المفيدة، الإسهاب في شرح ما ذهب إليه بعض فقهاء القانون الخاص في فرنسا أو بعض القانونيين في الدول العربية، من القول أن للدولة سلطتان إحداهما تشريعية تضع القوانين والأخرى تنفيذية تطبق القوانين، وأن القضاء ليس إلا مرفق تابع للسلطة التنفيذية مهمته الفصل في المنازعات. فالسلطة التنفيذية عند هؤلاء تنقسم إلى هيئتين متميزتين هما الهيئة الإدارية والهيئة القضائية، ويخلصون إلى أن الهيئة القضائية لابد وأن تتمتع بالاستقلال والحياد عند أدائها لوظيفتها.
عملياً فإن الاتجاه الدستوري العام يؤكد على نحو واسع يكاد يشكل إجماعاً دولياً، على أن القضاء سلطة، وأنه سلطة مستقلة. ولا يخرج عن هذا الإجماع سوى بعض الدول القليلة التي لا تزال تأخذ بالأفكار الماركسية، وتتبنى أنظمة الحكم الشمولية. فهذه الأفكار تؤكد أن القانون هو أساساً سياسة لأنه ذو مضمون طبقي، فهو التعبير عن إرادة الطبقة الحاكمة، وهو كذلك أداة تستخدمها هذه الطبقة لحماية مصالحها ولقمع معارضيها. ولهذا السبب لابد وأن ينظر إلى القانون والسياسة كوجهين لعملة واحدة، وأنه يجب على القانون أن يخدم السياسة. وعلى أساس هذه النظرة يجب أن يكون القضاء سياسياً يخرج عن دائرة السلطة المستقلة داخل الدولة.
وإذا كان الاتجاه الغالب والمسيطر على الفكر القانوني، وما يجري عليه العمل في دساتير الدول الديمقراطية، يذهب إلى أن القضاء سلطة من سلطات الدولة الحديثة تقف على قدم المساواة مع السلطتين التنفيذية والتشريعية، فإن هذا المذهب يجد أساسه النظري في فكرة "ضرورات نظام الحكم" . فالدولة في أنظمة الحكم الديمقرطية، تقوم بمهام عديدة من بينها سن وتشريع القوانين، وتنفيذها، وإدارة شؤون رعاياها وضمان حقوقهم وواجباتهم وحرياتهم وسلامتهم...وغيرها. وهي في قيامها بمهامها قد تقف مع الفرد في موقف النزاع والخصومة، ويظهر هذا جلياً في القرارات الإدارية التي تصدرها الإدارة والتي تؤثر في المركز القانوني للفرد، أو في الدعاوى الجزائية التي تحركها ضده.
وبغير أن تكون ثمة سلطة مستقلة تقف موقف الند للند مع السلطتين التنفيذية والتشريعية، تختص بالنظر والفصل على وجه القطع والإلزام في القضايا والمنازعات التي تثور بين الأفراد بعضهم بالبعض أو بين الأفراد ومؤسسات الدولة، أو بين مؤسسات الدولة بعضها بالبعض، فإن نظام الحكم لن يحقق الأمن والاستقرار للمجتمع ولن يضمن الحريات لأفراده، والذي هو أساس الدولة القانونية التي هي سمة من سمات الدولة الحديثة.
ب‌-حيدة القضاء.
منذ أن احتكم الإنسان إلى القضاء، وهو يطمئن إلى حكمه استناداً إلى حيدته. وهذه الحيدة هي التي أصبحت أصلاً من أصول القضاء المستقل، وهي التي تجعل من القضاء جهة مقبولة لأن تكون حكماً في الخصومات والمنازعات التي تنشأ بين الجمهور عامتهم وخاصتهم، جاهلهم ومتعلمهم، حاكمهم ومحكومهم...الخ.
وحيدة القضاء تظهر على ثلاث صور رئيسة.
أولها: الحيدة على مستوى المنازعات الفردية، حينما ينظر القاضي في منازعات الخصوم، إذ عليه أن يتنحى عن نظر القضية إذا استشعر بالحرج، أو إذا توافرت فيه حالة من حالات الرد، أو حالات عدم الصلاحية، أو حالات المخاصمة.
وثانيها: الحيدة على مستوى القضاء، بمعنى ألا يكون القضاء مصطبغاً بصبغة سياسية أو عقائدية حزبية أو قبلية أو مذهبية دينية أو غيرها، فيتحول القضاء بذلك إلى منبر لأفكار السلطة الحاكمة أو الحزب المسّير لدفة الحكم.
ثالثها: الحيدة على مستوى التخصص، بمعنى أن يُسند وظيفة القضاء إلى القضاة وحدهم، فلا يقحم في محرابه أحد غير سدنته الذين عاشوا في  رحابه وتطبعوا بقيمه وتقاليده، ولا أن يتطاول أحد على اختصاصه أو يقتطع قدراً من ولايته. وبغير هذه الحيدة، لا يكون القضاء مستقلاً.
- الأساس التشريعي لمبدأ استقلال القضاء
        يستند مبدأ استقلال القضاء في النظام القضائي لدولة الامارات العربية المتحدة، إلى عدة نصوص تشريعية متدرجة القوة، بدءاً من الدستور الاتحادي، مروراً بالقوانين الاتحادية، وانتهاء بالقوانين المحلية.
1 – دستور دولة الاتحاد
حفظ الدستور الاتحادي للقضاء استقلاله بصريح ما أورده في المادة (94) بقوله:
"العدل أساس الملك والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في أداء واجبهم لغير القانون وضمائرهم".
وأحاط هذا المبدأ بضمانة دستورية هي ضمانة عدم القابلية للعزل، إذ نصت المادة (97) من الدستور ذاته على أن:
 "رئيس المحكمة الاتحادية العليا وقضاتها لا يعزلون إبان توليهم القضاء، ولا تنتهي ولايتهم إلا لأحد الأسباب التالية…".

2 – القوانين الاتحادية
تأتي القوانين الاتحادية، كأساس تشريعي آخر لمبدأ استقلال القضاء. ويقف على رأس هذه القوانين، قانون المحكمة الاتحادية العليا وقانون السلطة القضائية الاتحادية. فالمادة (18) من القانون الاتحادي رقم 10 لسنة 1973 في شأن المحكمة الاتحادية العليا تنص على أن "رئيس المحكمة العليا وقضاتها غير قابلين للعزل ولا تنتهي ولايتهم إلا لأحد الأسباب التالية...".
أما القانون الاتحادي رقم (3) لسنة 1983 في شأن السلطة القضائية الاتحادية، فتنص المادة الأولى منه على أن:
 "العدل أساس الملك والقضاة مستقلون لا سلطان عليهم في أداء واجبهم لغير أحكام الشريعة الإسلامية والقوانين المرعية وضمائرهم، ولا يجوز لأي شخص أو سلطة المساس باستقلال القضاء أو التدخل في شؤون العدالة..." 
كما تنص المادة (31) من القانون ذاته على أن:
"القضاة غير قابلين للعزل ولا تنتهي ولايتهم إلا لأحد الأسباب الآتية...".
3 – القوانين المحلية
يتجاور في الامارات العربية المتحدة، نظامان قضائيان أحدهما اتحادي والآخر محلي ، ووفق أسس وأصول دستورية، يتحدد ولاية القضائين، وعند التنازع يرفع الأمر إلى المحكمة الاتحادية العليا للفصل في النزاع.
كما يتجاور معاً كذلك نوعان من التشريعات، هما التشريعات الاتحادية والتشريعات المحلية، ويحدد الدستور الاتحادي مجالات التشريع والتنفيذ التي يختص بها كل تشريع، وعند الخلاف يعرض الأمر على المحكمة الاتحادية العليا للبت فيه.
والعلاقة الوظيفية بين القضائين، هي علاقة تكامل في إطار الاستقلال بين الجهتين، فللقضاء الاتحادي مجال ولايته الذي لا يجوز له أن يتجاوزه أو أن يتنازل عنه، وكذلك للقضاء المحلي مجال ولايته الذي لا تمكنه أن يتخلى عنه أو أن يسمح للقضاء الاتحادي من أن يتغول عليه.
وفي هذا المعنى تقول المحكمة الاتحادية العليا في أحد أحكامها:-
"...توزيع الاختصاص بنظر الدعاوى القضائية بين المحاكم الاتحادية والمحاكم المحلية في دبي هو اختصاص ولائي متعلق بالنظام العام، ويوجب على كل محكمة سواء كانت تابعة للاتحاد أو لإحدى الهيئات القضائية المحلية في دبي أن تلتزم حدود ولايتها ولا تخالفها سلباً أو إيجاباً، فلا تتنازل عن اختصاصها ولا تنتزع اختصاص محكمة أخرى، التزاماً بأحكام الدستور والقوانين الصادرة وفقاً له...."
 [ الطعن رقم 192 لسنة 12 قضائية عليا، نقض مدني، جلسة 4/2/1992]
وكما في القضاء الاتحادي، فإن القضاء المحلي يأخذ بمبدأ استقلال القضاء مستنداً في ذلك على الأساس النظري لهذا المبدأ. أما في أساسه التشريعي، فإن كانت قوانين القضاء المحلية، لا تكشف بوضوح عن تبني هذا المبدأ (كما في القوانين الاتحادية) إلا أن النص على المبدأ في دستور دولة الاتحاد يلزم القضائين الاتحادي والمحلي معاً. كما أن بعض قوانين القضاء المحلية، تحيل إلى قانون القضاء الاتحادي فيما لم يرد فيه نص خاص كما في المادة (  1  ) من القانون المحلي رقم (   23  ) لسنة 2006 في شأن إنشاء دائرة القضاء بإمارة أبوظبي.

ثانياً : المساهمة القضائية في تعزيز مبدأ استقلال القضاء

-       المساهمة على مستوى تأطير المبدأ
أ‌-     التأكيد على خضوع الدولة وكافة سلطاتها وأجهزتها لحكم القانون.
حرصت المحكمة الاتحادية العليا في العديد من أحكامها على التأكيد أن الدولة وسلطاتها الثلاث وجميع أجهزتها ومؤسساتها، تخضع لحكم القانون. وجاء هذا التأكيد بشكل واضح من الدائرة الدستورية والدائرة الإدارية بشكل أخص. ففي حكم قديم قالت المحكمة "......ومن حيث إن الدولة الحديثة تقوم على مبدأ المشروعية الذي يعني "سيادة حكم القانون"، ومقتضى هذا المبدأ أن تخضع الدولة في تصرفاتها للقانون القائم، وأن يمكن الأفراد بوسائل مشروعة –من رقابة الدولة في أدائها لوظيفتها. بحيث يمكنهم أن يردوها إلى جادة الصواب كلما عنّ لها أن تخرج عن حدود القانون عن عمد أو إهمال..."
[ الدعوى رقم 5 لسنة 5 قضائية عليا – إداري، جلسة 21/6/1978]
وفي حكم حديث قالت المحكمة:-
 ".....وإذ كان خضوع الدولة بجميع سلطاتها لمبدأ سيادة الدستور أصلاً مقرراً وحكماً لازماً لكل نظام ديمقراطي سليم، فإنه يتعين على كل سلطة عامة أياً كان شأنها وأياً كانت وظيفتها وطبيعة الاختصاصات المسندة إليها أن تنزل على قواعد الدستور ومبادئه، وأن تلتزم حدوده وقيوده...".
 [ الدعوى رقم 1 لسنة 34 دستوري، جلسة 9/6/2008].

ويأتي أهمية هذا التأكيد، من حيث أنه يؤطر لمبدأ استقلال القضاء من خلال مبدأ الفصل بين السلطات، ومبدأ مشروعية عمل مؤسسات الدولة. فكما سبق القول فإن أساس مبدأ استقلال القضاء في جانبه التشريعي يقوم على مجموعة من القوانين التي تنظم القضاء، وتبين المبادئ الأساسية التي تحكمه، ومنها مبدأ استقلال القضاء، الذي تقول المحكمة أن على الدولة أن تخضع له.
ب‌-التأكيد على إعطاء وصف "السلطة القضائية" للهيئات القضائية المحلية.
قصّر دستور دولة الاتحاد اسم " السلطة القضائية" على القضاء الاتحادي الذي اعتبره سلطة من سلطات دولة الاتحاد، فيما أطلق على مؤسسات القضاء المحلي القائمة في إمارات الاتحاد، اسم "الهيئات القضائية المحلية".
كما لم ترد كلمة "السلطة القضائية" في التشريعات المحلية للإمارات المكونة للاتحاد، وإنما وردت مسميات مثل "دائرة العدل، دائرة المحاكم، دائرة القضاء"...الخ .
لكن المحكمة الاتحادية العليا أكدت في العديد من أحكامها، أن الهيئات القضائية المحلية هي بمثابة السلطة القضائية في الامارات ذات القضاء المحلي. ففي حكم لها قالت المحكمة ".....لما كان من المقرر في قضاء هذه المحكمة أن دستور دولة الامارات قد نص في المادة (104) منه على أن تتولى الهيئات القضائية المحلية في كل إمارة جميع المسائل القضائية التي لم يعهد بها للقضاء الاتحادي بمقتضى أحكام الدستور، وكانت إمارة دبي قد احتفظت بالسلطة القضائية لمحاكمها المحلية، فإن هذه المحاكم تكون هي صاحبة الولاية بالنسبة للدعاوى التي تقع في إقليم الإمارة....".
 [ الطعن رقم 655 لسنة 29 ق.ع نقض مدني ، جلسة 14/10/2008].
وفي حكم دستوري أكدت المحكمة على أن القضاء المحلي سلطة من سلطات تلك الإمارة، إذ قالت المحكمة: "...إن توزيع الاختصاصات التشريعية بين الاتحاد والامارات الأعضاء فيه المنصوص عليه في المادة (121) الواردة في الباب السابع من الدستور.... إنما يتفرع عن كون الاتحاد دولة مركبة لها سيادتها وشخصيتها الدولية وتتألف من امارات متعددة لكل منها سيادتها وسلطاتها التنفيذية والتشريعية والقضائية تستقل بممارستها على أراضيها وسكانها في غير الشئون التي يستأثر بها الاتحاد بمقتضى أحكام هذا الدستور.....".
[الدعوى رقم (1) لسنة (1) دستورية ، جلسة 29/9/1973]
[الدعوى رقم (1) لسنة (19)  دستورية ، جلسة 3/6/1992]
ومؤدى هذا التأكيد، تمتع الهيئات القضائية المحلية بحصانات وضمانات السلطة القضائية، ومنها استقلاليتها القضائية، وخضوعها للمواد الدستورية التي تقرر استقلال القضاء.
-       المساهمة على مستوى تطبيق المبدأ
أ‌-     حماية القاضي من الخصوم (مخاصمة القضاة)
يُعتبر مخاصمة القضاة، أحد التطبيقات العملية لمبدأ استقلال القضاء. وتقوم فلسفة المخاصمة على فكرة حماية القاضي من رجوع المتقاضين عليه بدعاوى التعويض عن كل أخطائه الناجمة عن ممارسة مهام عمله، مع إجازة مقاضاته عن أخطائه في حالات محددة حصراً، وعبر دعوى خاصة (دعوى المخاصمة) لا تخصع في سيرها ونظرها والفصل فيها لكل القواعد العامة للدعاوى.
ولا يخلو قانون عربي لأصول المحاكمات، أو قانون لتنظيم القضاء ( قانون السلطة القضائية) من تنظيم مسألة مخاصمة القضاة، ومن بينها قانون الإجراءات المدنية الاتحادي رقم 11 لسنة 1992، الذي تناول تنظيم مخاصمة القضاة وأعضاء النيابة العامة في المواد من 197-202.
وقد ساهمت المحكمة الاتحادية العليا في تأكيد مبدأ استقلال القضاء عبر إرساء مبادئ قضائية وقانونية عامة لقواعد وأسس دعوى المخاصمة. ففي حكم لها رفضت المحكمة تطبيق قواعد القانون المقارن على دعوى مخاصمة رفعها أحد المتقاضين على أحد رؤساء النيابة العامة يسند إليه ارتكاب خطأ مهني جسيم إلى جانب التدليس، وقالت المحكمة في حكمها ".... وحيث إنه لما كان نظام مخاصمة أعضاء السلطة القضائية غير معروف في ظل القوانين السابقة على صدور القانون الاتحادي رقم (11) لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية، بل كان بعضها ينص صراحة على عدم جواز محاكمتهم مدنياً أو جنائياً. ولا يجوز تقرير هذا النظام بالاستعارة من القوانين المقارنة في هذا الصدد حيث لا يجوز إعمالها في خلق نظام بأكمله ..."
 [ دعوى المخاصمـة رقم (1) لسنة 1992 ، جلسة 9/2/1993 ، مجموعة الأحكام .... السنة 15 ، العدد الأول ، ص 287 ].
وحتى لا تكون الأفعال التي قد يخاصم عنها القاضي عائمة وغير محددة المعنى والمقصود، وحتى لا يخاصم عن أي خطأ مهما كان ، فقد حددت المحكمة المقصود بالغش والتدليس والخطأ المهني الجسيم ، حيث قالت:
"..... المقصود بالغش والتدليس، هو الانحراف عن العدالة بقصد وسوء نية لاعتبارات خاصة تتنافى مع النزاهة، وكان المقصود بالخطأ المهني الجسيم هو الخطأ الذي ينطوي على أقصى ما يمكن تصوره من الإهمال في أداء الواجب، أو الجهل الذي لا يغتفر بالوقائع الثابتة بملف الدعوى، ولا يدخل في نطاق الخطأ المهني الجسيم مجرد الخطأ في التقدير أو في استخلاص الوقائع أو في تفسير القانون أو قصور الأسباب، لأن سبيل تدارك ذلك هو الطعن في الحكم بطرق الطعن المناسبة. كما أن تقدير الأدلة واستخراج النتائج منها لا يعتبر خطأ مهيناً جسيماً مادام ليس هناك جهل بالمبادئ القانونية الصريحة. وكل عمل يدخل في دائرة تفسير النصوص القانونية المتروكة لبصيرة القاضي وتقديره وسلطته لا يعتبر خطأ مهنياً جسيما ما دام أن عمله غير مشوب بسوء النية ولا يعتبر جهلاً واضحاً، وكذلك كل ما يدخل في محيط السلطة التقديرية أو الخطأ في الاجتهاد وعدم بحث بعض الدفوع...".
  [ الدعوى سابقة البيان ]
وفي دعوى المخاصمة رقم (2) لسنة 18 ق.ع مدني، أفصحت المحكمة الاتحادية العليا عن علة عدم جواز الاستعانة بالقوانين المقارنة لاستحداث نظام
"مخاصمة القضاء" حيث قالت المحكمة في حكمها:
"وحيث إنه ولما كان ذلك ولم يكن نظام مخاصمة أعضاء السلطة القضائية معروفاً في الدولة في ظل القوانين السابقة على صدور القانون الاتحادي رقم 11 لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية، بل كانت تنص صراحة على عدم جواز محاكمتهم مدنياً أو جنائياً، ولا يجوز تقرير هذا النظام بالاستعارة من القوانين المقارنة حيث لا يستقيم خلق نظام بأكمله يعلو على التشريعات الوطنية بل ويتعارض مع ما نهت عنه هذه القوانين صراحة".
[ دعوى المخاصمة رقم 2 لسنة 18 ق.ع جلسة 17/9/1997]

ب‌- حماية القاضي من التأثر بعواطفه أو آرائه.( عدم الصلاحية )

عدم  الصلاحية أو "عدم صلاحية القاضي"، وسيلة قانونية أوجدها المشرع، ألزم بموجبها القاضي عدم سماع الدعوى، إذ قامت لديه حالة أو أكثر من حالات عدم الصلاحية المنصوص عليها حصراً في القانون.
وتجد مؤسسة "عدم صلاحية القاضي" أساسها الفكري في مبدأ "استقلال القضاء". وهي صورة من صور تطبيقاته العملية التي تبناها المشرع في نصوص قانونية ملزمة. وتقوم فلسفة "عدم الصلاحية" على فكرة حماية القاضي واستقلال ونزاهة وحيدة القضاء، وذلك بمنع القاضي من التأثر بعواطفه أو آرائه السابقة أثناء قيامه بأداء مهام عمله القضائي.
فالقاضي، إنسان يحيى ويعيش على الأرض، وهو بطبيعته البشرية له عواطفه الإنسانية وآراؤه الخاصة التي قد يتأثر بها في قضائه . فمهما تحلى القاضي بالعدالة والنزاهة، فهو عرضة للتأثر بعواطفه أو أهوائه، أو آرائه التي سبق وأن أبداها في الأنزعة التي فصل فيها، ومن ثم فمن العسير أن يطلب منه أن يكون مستقلاً في عمله محايداً بين الخصوم إذا وضع في موقف لابد وأن يتأثر فيه بعواطفه وآرائه. ولذلك، وتأسيساً على مبدأ استقلال القضاء، نظم المشرع الاماراتي الاتحادي في المواد من 114 -124 من قانون الإجراءات المدنية الاتحادي، أحكام عدم صلاحية القضاة وردهم وتنحيتهم.
ولقد ساهمت المحكمة الاتحادية العليا في تعزيز مبدأ استقلال القضاء من خلال مراقبتها لصحة تطبيق وتأويل وتفسير المواد القانونية المتعلقة بعدم صلاحية القضاة.
ففي قضاء لها قالت المحكمة :
"وحيث إن هذا النعي سديد، ذلك أنه عملاً بالمادة (114) من القانون الاتحادي رقم 11 لسنة 1992 في شأن الإجراءات المدنية، فإن القاضي لا يكون صالحاً لنظر الدعوى إذا كان قد سبق له نظرها بأن كانت الخصومة مرددة بين ذات الخصوم ويستدعي الفصل فيها الادلاء بالرأي في نفس الحجج والأسانيد التي أثيرت وفصل فيها القاضي من قبل، فإذا كان القاضي قد عرض لهذه الحجج في حكمة السابق وأدلى فيها برأي، فإنه يكون غير صالح لنظر الخصومة وممنوعا من سماعها، وعلة ذلك الخشية من تشبثه برأيه الذي يشف عنه عمله المتقدم فيشل تقديره ويتأثر به قضاءه، بما يتعارض مع ما يشترط في القاضي من خلو الذهن عن موضوع الدعوى حتى يستطيع أن يزن حجج الخصوم وزناً مجرداً أخذاً بأن إظهار الرأي قد يدعو إلى التزامه بما يتنافى مع حرية العدول عنه...".
[ الطعن رقم 31 لسنة 15 ق.ع نقض مدني شرعي ، جلسة 23/10/1993].
        وفي حكم مماثل قالت المحكمة:
"وحيث إن هذا النعي غير سديد، ذلك أن المادة (114) من قانون الإجراءات المدنية ونصها عام في بيان أحوال عدم الصلاحية، أوردت في فقرتها الأولى (ز) على أن القاضي يكون غير صالح لنظر الدعوى ممنوعاً من سماعها (إذا كان قد أفتى أو ترافع عن أحد الخصوم في الدعوى أو كتب فيها ولو كان ذلك قبل اشتغاله بالقضاء أو كان قد سبق له نظرها قاضياً أو خبيراً أو محكماً أو كان قد أدى شهادة فيها). يدل على أن أساس وجوب امتناع القاضي عن نظر الدعوى وهو قيامه بعمل يجعل له رأياً في الدعوى يتعارض مع ما يشترط فيه من خلو الذهن عن موضوع الدعوى ليستطيع أن يزن حجج الخصوم وزناً مجرداً.  وكان المقصود بالدعوى المشار إليها في النص هو الدعوى المطروحة. فإذا كان القاضي قد حكم في دعوى أخرى أو مرتبطة أو متفرعة عنها، فإن ذلك لا يعد من أسباب عدم الصلاحية المبينة في تلك المادة والتي تحظر على القاضي الذي يقوم به أحدها أن يجلس للفصل فيها وذلك درءاً لشبهة تأثره برأي سبق وأن أبداه في الدعوى ذاتها...."
[ الطعنان رقما 546 و 596 لسنة 18 ق.ع نقض مدني ، جلسة 25/11/1997 ]
    وفي حكم آخر قالت المحكمة:
".....أن مناط عدم صلاحية القاضي لنظر الخصومة المطروحة عليه ومنعه من سماعها هو سبق نظره لها بين ذات الخصوم وإبداء رأيه واتجاهه فيها بأن يستدعي الفصل فيها تناول نفس الحجج والأسانيد التي أثيرت وفصل فيها القاضي من قبل في حكمه السابق..."
[ الطعنان رقما 159 و 296 لسنة 18 ق.ع نقض مدني ، جلسة 25/10/1998]
وانظر كذلك على سبيل المثال، الطعون أرقام:-

238 لسنة 15 ق.ع نقض مدني ، جلسة 30/9/1993
194 لسنة 16 ق.ع نقض مدني ، جلسة 20/12/1994
222 لسنة 18 ق.ع نقض مدني ، جلسة 21/1/1997
158 لسنة 19 ق.ع نقض شرعي ، جلسة 10/10/1998
339 لسنة 20 ق.ع نقض مدني ، جلسة 26/11/2000
51  لسنة 22 ق.ع نقض مدني ، جلسة 16/6/2002
644 لسنة 23 ق.ع نقض مدني ، جلسة 18/11/2003
826 لسنة 27 ق.ع نقض مدني ، جلسة 28/10/2008


وبما أن فلسفة "عدم الصلاحية" تقوم على فكرة حماية القاضي واستقلال، ونزاهة وحيدة القضاء، فقد تشددت المحكمة الاتحادية العليا في تفسير حالات عدم الصلاحية. ففي حكم لها قالت المحكمة:-
 "...إن المادتين 37، 38 من القانون الاتحادي رقم 3 لسنة 1983 بشأن السلطة القضائية الاتحادية بينتا بيان حصر أسباب عدم صلاحية القضاة وحددتها بإفشاء القاضي سر المداولة وإبداء رأيه أو اتجاهه في قضية معروضة لأية جهة كانت ووجود صلة قرابة حتى الدرجة الرابعة بين القاضي وبين أحد القضاة الآخرين المشاركين في نظر الدعوى أو بينه وبين ممثل النيابة العامة أو ممثل أحد الخصوم أو المدافع عنه وبالتالي فلا يجوز التوسع في تفسيرها أو القياس عليها..."
[ الطعن رقم 203 لسنة 12 ق.ع نقض مدني ، جلسة 17/12/1991 ]
كما قضت المحكمة في حكم لها، أن أحوال عدم الصلاحية تتعلق بالنظام العام، فقد قالت في طعن لها:
"....إن أسباب عدم صلاحية القاضي لنظر الدعوى لأي من الأحوال المنصوص عليها في المادة 114 من قانون الإجراءات المدنية لسنة 1992 تتعلق بالنظام العام، وأنه يجوز للخصوم التمسك بهذا السبب لأول مرة أمام محكمة النقض متى توافرت عناصر الفصل فيها وورد ذلك على الجزء المطعون عليه من الحكم....."
[ الطعن رقم 295 لسنة 17 ق.ع نقض مدني ، جلسة 15/7/1996]

وصفوة القول، أن "مبدأ استقلال القضاء"، أحد المبادئ العامة الكبرى الذي يقوم عليه أي تنظيم قضائي حديث. وهذا المبدأ يفرض نفسه أينما وجد قضاء أو عمل قضائي، ولو لم ينص عليه في دستور أو قانون، فلا قضاء بغير استقلال.
وإذا كانت كل التشريعات المعاصرة تنص على هذا المبدأ في صلب دساتيرها، أو قوانين تنظيم القضاء فيها، فإن للمحاكم وخاصة العليا منها دور بارز في تعزيز هذا المبدأ من خلال دورها في تأويل وتطبيق وتفسير القانون. ومن خلال وظيفتها القانونية، أبرزت المحكمة الاتحادية العليا صور عديدة لتطبيقات مبدأ استقلال القضاء وأرست مبادئ قانونية وقضائية ساهمت في تعزيز المبدأ، وأصبحت دستوراً تمشى على هديه المحاكم الاماراتية الاتحادية منها والمحلية.
ج

                         وانتهــت الورقة

                 والله المــوفق ،،
    رئيــس المحكــمة الاتحـادية العليا
                                                         بدولة الامارات العربية المتحدة

                                                           القاضي/د.عبدالوهاب عبدول    

تعليقات